كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{متكئين عليها متقابلين} حالان من الضمير في على سرر، ويجوز أن تكون حالًا متداخلة فيكون متقابلين حالًا من ضمير متكئين، ثم بين تعالى أنهم في غاية الراحة بقوله تعالى: {يطوف عليهم} أي: لكفاية كل ما يحتاجون إليه {ولدان} أي: على أحسن صورة وزي وهيئة {مخلدون} قد حكم الله تعالى ببقائهم على ما هم عليه من الهيئة على شكل الأولاد قال الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس:
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ** قليل الهموم ما يبيت بأوجال

وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرّطون، يقال للقرط: الخلد، والقرط ما يجعل في الأذنين من الحلق؛ وقيل: مقرطقون أي ممنطقون من المناطق والمنطقة ما يجعل في الوسط؛ وأكثر المفسرين أنهم على سن واحد أنشأهم الله تعالى لأهل الجنة، يطوفون عليهم نشؤًا من غير ولادة فيها لأنّ الجنة لا ولادة فيها؛ وقال عليّ بن أبي طالب والحسن البصري رضي الله عنهم: الولدان هاهنا ولدان المسلمين الذي يموتون صغارًا ولا حسنة لهم ولا سيئة؛ وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة؛ قال الحسن: لم تكن لهم حسنات يجازون بها ولا سيآت يعاقبون عليها فوضعوا هذا الموضع. والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة وقوله تعالى: {بأكواب} متعلق بيطوفون، والأكواب جمع كوب وهي كيزان مستديرة الأفواه بلا عرى ولا خراطيم، لا يعوق الشارب منهاعائق عن شرب من أي موضع. أراد منها، فلا يحتاج أن يحول الإناء عن الحالة التي تناوله بها ليشرب، وقوله تعالى: {وأباريق} جمع إبريق، وهي أوان لها عرى وخراطيم فيها من أنواع المشارب ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، سمى بذلك لبريق لونه من صفائه {وكأس} أي: إناء شراب الخمر {من معين} أي: خمر صافية صفاء الماء ليس يتكلف عصرها جارية من منبع لا ينقطع أبدًا، فإن قيل: كيف جمع الأكواب والأباريق وأفرد الكأس؟
أجيب: أنّ ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كثيرة ويشربون بكأس واحد، وفيها مباينتهم أهل الدنيا من حيث أنهم يطوفون بالأكواب والأباريق ولا تثقل عليهم بخلاف أهل الدنيا {لا يصدّعون عنها} أي: بسببها قال الزمخشري وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها، والصداع: هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه، والخمر تؤثر فيه؛ قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر:
تشفى الصداع ولا يؤذيك صالتها ** ولا يخالطها في الرأس تدويم

قال أبو حيان: هذه صفة خمر الجنة كذا قال لي الشيخ أبو جعفر بن الزبير؛ والمعنى: لا تتصدّع رؤوسهم من شربها فهي لذة بلا أذى بخلاف خمر الدنيا؛ وقيل: لا يتفرقون عنها {ولا ينزفون} أي: تذهب بعقولهم بوجه من الوجوه أي: يفرغ شرابهم من نزفت البئر إذا نزح ماؤها كله؛ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي والباقون بفتحها {وفاكهة مما يتخيرون} أي: يختارون ما يشتهون من الفواكه لكثرتها؛ وقيل: المعنى: وفاكهة متخيرة مرضية والتخير الاختيار {ولحم طير مما يشتهون} أي: يتمنون؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلًا بين يديه على ما اشتهى، ويقال: إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير فيذهب؛ فإن قيل: ما الحكمة في تخصيص الفاكهة بالتخيير، واللحم بالاشتهاء؟
أجيب: بأنّ اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة، فالجائع مشته، والشبعان غير مشته بل هو مختار، وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم للفاكهة أكثر فيتخيرونها، ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن بخلاف اللحم، وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل، ولهذا قدم الفاكهة على اللحم.
فإن قيل: الفاكهة واللحم لا يطوف بهما الولدان، والعطف يقتضي ذلك؟
أجيب: بأنّ الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان فيناولونهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده، أو يكون معطوفًا على المعنى في قوله: {جنات النعيم} أي: مقرّبون في جنات النعيم وفاكهة ولحم، أي: في هذا النعيم يتقلبون.
ولما لم يكن بعد الأكل والشراب أشهى من النساء قال تعالى: {وحور} أي: نساء شديدات سواد العيون وبياضها {عين} أي: ضخام العيون وقرأ حمزة والكسائي بخفض الاسمين عطفًا على {سرر}، فإنّ النساء في معنى المتكأ لأنهن يسمين فراشًا، والباقون بالرفع عطفًا على {ولدان} {كأمثال اللؤلؤ المكنون} أي: المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء، فيكون في نهاية الصفاء؛ قال البغوي: ويروى أنه يسطع نور في الجنة فيقولون: ما هذا؟ فيقال: ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها ويروى أنّ الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقها، وتمجيد الأسورة من ساعديها، وأنّ عقد الياقوت يضحك في نحرها، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح. ولما بالغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء دل على أنّ أعمالهم كانت كذلك لأنّ الجزاء من جنس العمل فقال تعالى: {جزاء} أي: فعل ذلك لهم لأجل الجزاء {بما كانوا يعملون} أي: يجدّدون عمله على جهة الاستمرار، قالت المعتزلة: هذا يدل على أنّ إيصال الثواب واجب على الله تعالى، لأنّ الجزاء لا يجوز الإخلال به، وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروه لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة، لأنّ العقل إذا حكم بأنّ ترك الجزاء قبيح، وعلم بالعقل أنّ القبيح من الله تعالى لا يوجد علم أنّ الله تعالى يعطى هذه الأشياء لأنها جزاؤه، وإيصال الجزاء واجب، فكان لا يصح التمدح به {لا يسمعون فيها لغوًا} أي: شيئًا مما لا ينفع واللغو الساقط {ولا تأثيمًا} أي: ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الأثم بل حركاتهم وسكناتهم كلها في رضا الله تعالى؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: باطلًا وكذبًا؛ قال محمد بن كعب: ولا تأثيمًا أي: لا يؤثم بعضهم بعضًا؛ وقال مجاهد: لا يسمعون شتمًا ولا مأثمًا وقوله تعالى: {إلا قيلًا} فيه قولان أحدهما: أنه استثناء منقطع وهذا واضح لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم، والثاني: أنه متصل وفيه بعد؛ قال ابن عادل فكان هذا رأى أنّ الأصل لا يسمعون فيها كلامًا فاندرج عنده فيه؛ ثم بين تعالى ذلك بقوله: {سلامًا سلاما} أي قولا سلامًا، قال عطاء: يحيى بعضهم بعضًا بالسلام، أو تحيهم الملائكة، أو يحييهم ربهم؛ ودل على دوامه بتكريره فقال تعالى: {سلاما} ففيه إشارة إلى كثرة السلام عليهم ولهذا لم يكرر في قوله تعالى: {سلام قولا من رب رحيم} [يس:].
وقال القرطبي: السلام الثاني بدل من الأوّل، والمعنى: إلا قولا يسلم فيه من اللغو.
ولما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى: {وأصحاب اليمين} ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم فقال تعالى: {ما أصحاب اليمين} فإن قيل: ما الحكمة في ذكرهم بلفظ أصحاب الميمنة عند تقسيم الأزواج الثلاثة وبلفظ أصحاب اليمين عند ذكر الإنعام؟
أجيب: بأن ذلك تفنن في العبارة والمعنى واحد {في سدر} أي: شجر نبق {مخضود} أي: لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي: قطع ونزع منه؛ قال ابن المبارك: أخبرنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولون: إنا لينفعنا الأعراب ومسائلهم؛ قال: أقبل أعرابي يومًا فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذى صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما هي؟» قال: السدر فإن له شوكًا مؤذيًا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ليس يقول سدر مخضود خضض الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمرًا على اثنين وسبعين لونًا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر»؛ وقال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى وج وهو واد بالطائف مخصب فأعجبهم سدره فقالوا يا ليت لنا مثل هذا فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة وما فيها:
إن الحدائق في الجنان ظليلة ** فيها الكواعب سدرها مخضود

قال مجاهد: {في سدر مخضود} هو الموقر حملًا الذي تنثني أغصانه كثرة حمله من خضض الغصن إذا ثناه وهو رطب؛ وقال سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال {وطلح منضود} أي: منظوم بالجمل من أعلاه إلى أسفله ليست له ساق بارزة متراكم يتركب بعضه على بعض على ترتيب هو في غاية الإعجاب، والطلح جمع الطلحة؛ قال عليّ وابن عباس رضي الله عنهم وأكثر المفسرين: الطلح شجر الموز واحده طلحة؛ وقال الحسن: ليس هو موزًا ولكنه شجر له ظل بارد رطب؛ وقال الفرّاء وأبو عبيدة: شجر عظيم كثير الشوك والطلح كل شجر عظيم له شوك؛ وقال الزجاج: هو شجر أم غيلان؛ قال مجاهد: ولكن ثمرها أحلى من العسل، وقال الزجاج: لها نور طيب جدًّا خوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله إلا أنّ فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا؛ وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل؛ وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله كلما أكلت ثمرة عاد مكانها أحسن منها {وظل ممدود} أي: دائم لا يزول ولا تنسخه الشمس لقوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظلّ ولو شاء لجعله ساكنًا} [الفرقان:].
كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس؛ وقيل: الظل ليس ظلّ أشجار بل ظلّ يخلقه الله تعالى، قال الربيع بن أنس رضي الله عنه: يعني ظلّ العرش؛ وقال عمرو بن ميمون رضي الله عنه: مسيرة سبعين ألف سنة؛ وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود قال الشاعر:
غلب العزاء وكان غير مغلب ** دهر طويل دائم ممدود

وفي صحيح الترمذي وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم {وظلّ ممدود}» في هذا الحديث ردّ على من يقول: إنّ الأشجار لا ظل لها وقد سئل السبكي عن الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولًا إذا تراءت له شجرة يقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل في ظلها، الحديث من أيّ شيء يستظل والشمس قد كورت؟ أجاب بقوله تعالى: {وظلّ ممدود} وبقوله تعالى: {هم وأزواجهم في ظلال} [يس:].
إذ لا يلزم من تكوير الشمس عدم الظل لأنه مخلوق لله تعالى وليس بعدم بل أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها. فليس الظل عدم الشمس كما قد يتوهم؛ وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وظلّ ممدود} قال شجرة في الجنة يخرج إليها أهل الجنة فيتحدّثون، ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله تعالى عليهم ريحًا من الجنة فتتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا {وماء مسكوب} أي: جار في منازلهم في غير أخدود لا يحتاجون فيه إلى جلب ماء من الأماكن البعيدة ولا إدلاء في بئر كأهل البوادي، فإن العرب كانت أصحاب بادية وبلاد حارّة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك {فاكهة كثيرة} أي: أجناسها وأنواعها وأشخاصها {لا مقطوعة ولا ممنوعة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تنقطع إذا جنيت، ولا تمتنع من أحد إذ أراد أخذها، وقال بعضهم: لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع أكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء، ولا يتوصل إليها إلا بالثمن؛ وقيل: لا يمنع من أرادها شوك ولا بعد ولا حائط بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال تعالى: {قطوفها دانية} [الحاقة:].
وجاء في الحديث: «ما قطع من ثمار الجنة إلا أبدل الله تعالى مكانها ضعفين».
ولما كان التفكه لا يكمل الإلتذاذ به إلا مع الراحة قال تعالى: {وفرش مرفوعة} أي: رفيعة القدر يقال: ثوب رفيع، أي: عزيز مرتفع القدر والثمن بدليل قوله تعالى: {متكئين على فرش بطائنها من استبرق} [الرحمن:].
فكيف ظهائرها أو مرفوعة فوق السرر بعضها فوق بعض؛ روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام». قال: حديث غريب؛ وقيل: هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللباس، أي: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، والعرب تسمى المرأة فراشًا ولباسًا على الاستعارة.